الأربعاء، 16 ديسمبر 2009


عثرات الدبلوماسية المغربية وانتصاراتها

بين النهج التقليدي ومعادلة الربح والخسارة

أثارت القرارات الدبلوماسية ، الكثير من التساؤلات بين مؤيد ومعارض، مساند ومنتقد. كما تولدت عنها جملة من الاستفسارات حول طبيعة العلاقة القائمة بين الدبلوماسية الرسمية والدبلوماسيات الموازية التي مازالت تشكو من فراغ في رأي البعض أو غياب مطلق بالنسبة للبعض الآخر، وقصور توظيفها لخدمة الملفات الكبرى ودعم السياسة العامة للدولة. كما دفعت أيضا إلى تناسل تساؤلات أخرى حول نهج اختيار السفراء والدبلوماسيين وآليات تعيينهم ومراقبتهم وتقييم أدوارهم بخصوص تقديم صورة المغرب كبلد حامل لـ "مشعل الديمقراطية والحداثة واحترام حقوق الإنسان والعصرنة والتسامح الديني بالعالم العربي"، ومجهوداته في نطاق جلب الاستثمارات الخارجية وجعل كفاءات مغاربة الخارج في خدمة البلاد.

تباينت الآراء والمواقف حول آخر أهم قرارين دبلوماسيين اتخذهما المغرب، والخاصين بكل من إيران وفنزويلا، وهما قراران تداخل فيهما السياسي بالسيادي وبالإيديولوجي والديني، مما دفع المهتمين بالشأن الدبلوماسي إلى طرح العديد من الأسئلة حول واقعية هذين القرارين في الظرفية الحالية، وحول عدم نهج نفس المسار والمنحى سنة 2002 مع الجارة الإسبانية بفعل تداعيات حدث جزيرة ليلى.

ينضاف إلى هذه الإجراءات غير المنتظرة، استدعاء سفير المغرب بداكار، عندما نزل قائد أحد الأحزاب السياسية السنيغالية الصغيرة ضيفا على الانفصاليين بتيندوف.

كل هذه القرارات وغيرها دفعت الكثيرين إلى التساؤل: هل دبلوماسيتنا بخير الآن؟ وهل هي فعلا خاضعة لرؤية مضبوطة ومتحكم فيها، أم أنها، خلافا للسابق، نتيجة قرارات مزاجية أو متسرعة؟

هذا في وقت أصبحت أهمية الدبلوماسية تتمثل في كونها لم تعد آلية للسياسة الخارجية فقط، وإنما أصبحت وسيلة لتحقيق أهداف السياسة العامة للدولة، سواء كانت داخلية أو خارجية.

المهمة الأساسية

عندما نتحدث عن الدبلوماسية، إن أول ما يتبادر إلى الذهن، وعن صواب، دور وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، فبالنسبة لجميع الدول تلعب هذه الوزارة دورا أساسيا ومحوريا في الدفاع عن القضايا الوطنية، غير أن المجال الدبلوماسي تجاوز حاليا مرحلة احتكاره من طرف هذه الوزارة، حيث أضحى شأن أكثر من جهة سيما مع سيادة العولمة.

من هذا المنظور تتمحور المهمة الجوهرية للدبلوماسية المغربية حول الفكرة التالية: دعم صورة "المغرب الديمقراطي العصري المجند وراء ملك حداثي متسامح"، في إطار استراتيجية تسعى إلى استكشاف فضاءات جديدة للتعاون الاقتصادي وتقوية القيمة الاستراتيجية الموقعية لبلادنا، لجعلها شريكا نموذجيا لمختلف البلدان وتثمين موقعها الطلائعي بخصوص الأدوار التي يمكن الاضطلاع بها في المحيط المغاربي والعربي والإسلامي والأورومتوسطي والإفريقي في عصر العولمة، في وقت تداخلت فيه القضايا الداخلية بالقضايا الخارجية والعالمية.

هذا علاوة على الترابط بين السياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية والسياسة الأمنية والبيئة وحقوق الإنسان وقضايا الثقافة والهوية، وكذلك ولوج فاعلين جدد على الصعيد الدبلوماسي، في الدبلوماسية البرلمانية ودبلوماسية الجماعات المحلية (المنتخبين المحليين) ودبلوماسية الجمعيات والمنظمات غير الحكومية ودبلوماسية رجال الأعمال ودبلوماسية الشخصيات الوازنة (مثقفين مشاهير، رياضيين) والدبلوماسية الوقائية....

دبلوماسية محمد السادس

تعقدت الأوضاع في عهد الملك محمد السادس، ولوحظ نشاط وحركية الدبلوماسية الاقتصادية بشكل خاص، أكثر من الدبلوماسية السياسية، إذ كان لزاما على بلادنا القيام بجملة من المبادرات المواكبة لمجهودات الدبلوماسية بمفهومها "التقليدي"، وذلك بغية الحفاظ على المصالح والأسواق التقليدية وفتح أسواق جديدة واستقطاب المستثمرين وجلب السياح. وهذا ما نعته البعض بضرورة وإلزامية تكريس دبلوماسية في خدمة التنمية.

لقد تأثرت دبلوماسيتنا بالتحولات التي عاشها العالم بعد 11 شتنبر 2001، إذ أضحت إشكالية الأمن الجماعي مطروحة بحدة أكثر من السابق، بموازاة مع انتشار ظاهرة الانكماش الحضاري وتداعيات الإرهاب الدولي، مما أدى بالدبلوماسية المغربية إلى إعادة النظر في أساليبها ووسائل عملها، سعيا إلى التأقلم مع المناخ الكوني الجديد الذي اتضح أنه مرشح للتغيير بوتيرة متسارعة، خلافا للسابق.

عندما كان وزيرا للخارجية، ظل محمد بن عيسى يقر أن دبلوماسيتنا ترتكز على الواقعية السياسية لضمان استمرار إشعاعها وتطور أدائها وفق ما تستوجبه المستجدات والتحولات المتسارعة التي يشهدها الركحان، الإقليمي والدولي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وأمنيا أيضا.

وقد كان لزاما أحيانا اعتماد آليات اللوبيات لدعم السياسة الخارجية.

اللوبيات الخارجية

من الآليات التي تلجأ إليها الدبلوماسية، اللوبيات الخارجية. ومن الأمثلة البارزة، أن استعان القيمون على الأمور، في إطار التعاطي مع ملف الصحراء، بخدمة أحد اللوبيات بالولايات المتحدة، والمعروف بمبادرة (MAC) American Center OF Policy، وهي عبارة عن أرضية أُقرّت من طرف الحكومة تحت رعاية ملكية مسجلة قانونيا بوزارة العدل الأمريكية، اهتمت بمطالب 408 سجين حرب مغربي محتجزين بتيندوف، باعتبارهم أقدم سجناء حرب على الصعيد العالمي.

من أعضاء هذا اللوبي "روبير هولي" و"جون أبينادير"، فالأول كان مستشارا سياسيا بالسفارة الأمريكية بالرباط سنة 1999 ومحرر التقارير الخاصة بوضعية حقوق الإنسان بالمغرب، وهو الذي سبق وأن أعلن عن غضبه المستطير بفعل مراقبته اللصيقة من طرف عناصر الأجهزة الأمنية المغربية حين كان يستقصي حول أحداث العيون، ومنذئذ انقض الانفصاليون على تصريحاته ووظفوها بشكل واسع خلال دعايتهم المضادة لبلادنا.

أما "أبينادير"، فهو مدير المعهد العربي الأمريكي، الذي تكلف بإقناع "كوندليسا رايس" بإلحاق "البوليساريو" باللائحة السوداء الخاصة بالتنظيمات الإرهابية.

ومن الأمثلة الفاشلة في نطاق استخدام اللوبيات، محاولة السفير السابق بباريس، فتح الله السجلماسي، صهر وزير الخارجية والتعاون، الرامية إلى خلق لوبي فرنسي، يدعم مبادرة الحكم الذاتي في صفوف البرلمانيين الفرنسيين، اعتمادا على "جون روتا" أحد النواب البرلمانيين لمدينة مرسيليا ورئيس "مجموعة الصداقة الفرنسية المغربية" وكذلك البرلمانية "بوليت بريزبيير".

تعيين السفراء

تزامن آخر تعيين لسفراء جدد مع جملة من الأحداث، منها تداعيات انكشاف خطة السفير المغربي السابق بباريس بخصوص إقناع بعض البرلمانيين الفرنسيين بتبني الموقف المغربي في قضية الصحراء والنازلة المرتبطة بإشكالية التسلل المخابراتي بهولندا وواقعة الجوازات الدبلوماسية والشواهد الجامعية العليا "المزورة" بكندا، وكذلك اتخاذ القرارات الدبلوماسية، بخصوص فنزويلا وإيران، الجريئة في نظر البعض والمتسرعة في رأي البعض الآخر.

آنذاك تمّ تعيين 25 سفيرا، ضمنهم 5 سفيرات أضفن إلى الثلاثي السابق ليصبح عددهن 8 سفيرات في المغرب، ومن بين السفراء 25 المعينين 19 اضطلعوا بمهمة دبلوماسية لأول مرة، وكانت مناسبة لتناسل الكثير من التساؤلات حول طرق وآليات اقتراح واختيار السفراء وتداخل العوامل السياسية والمصلحية والروابط العائلية وعوامل أخرى لا يعلمها إلا المقربون من دوائر صناعة القرار.

دبلوماسية الراحل الحسن الثاني

لقد سجل التاريخ أن الملك الراحل الحسن الثاني يعد مهندس سياسة المغرب الخارجية ودبلوماسيته، ومحدد توجهاتها العامة ومحدث أسسها ودعائمها الأولى، وكاد خبراء العلاقات الدولية أن يجمعوا على أن الملك الراحل مكّن بلاده من فرض مكانتها على الصعيد العالمي، لمعرفته بالتاريخ ودرايته بأطواره، ووعيه الحاد والمبكر بأهمية الجيوسياسة وتتبعه عن قرب لتحولات موازين القوى وحدسه لمنحى تطورات المعطيات السياسية العالمية ومتطلباتها المرحلية والاستراتيجية، مما ساعده على اتخاذ عدة قرارات استعصى فهمها على الكثيرين لحظة الإقرار بها، ولم يتيسر فهمها إلا بعد مرور سنوات. وحسب العديد من المحللين، فقد لعبت بعض تلك القرارات أدوارا حيوية في استمرارية النظام الملكي رغم استهدافه داخليا وخارجيا. لكن بعد رحيل الملك الحسن الثاني برزت مجموعة من المشاكل جعلت السياسة الخارجية تتقهقر، مما خلق أحيانا حرجا ساهم في تضييع جملة من المكتسبات، سيما بخصوص الملفات الكبرى، وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية.

لكن عموما، وبشهادة الكثيرين، شكل المجال الدبلوماسي والعلاقات الدولية فضاء برز فيه دهاء الملك الراحل. لقد كانت تربطه علاقات، ليس فقط مع رؤساء دول، وإنما كان يحرص على علاقته مع الأحزاب السياسية الأجنبية والأوساط الفنية والثقافية، ومع دور النشر عبر العالم، ومع مقاولين كبار دوليين، وكانت الكثير من هذه العلاقات والروابط شخصية، وظفها في تفعيل الاستثمار الأجنبي بالمغرب وخدمته.

وفي هذا الصدد لابد من التذكير بمجموعة من القمم العربية والإسلامية التي ترأسها الراحل الحسن الثاني، لعل أهمها قمة 1974 التي أقرت بالإجماع أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني، وموازاة مع ذلك، على المستوى الشعبي، تم الإقرار، انطلاقا من المغرب، أن القضية الفلسطينية تعتبر قضية وطنية.

كما أنه لا مندوحة من الإشارة أيضا إلى أن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي كانت في المغرب سنة 1969، إذ على إثر حادث حريق القدس الشريف، دعا الراحل الحسن الثاني إلى عقد قمة إسلامية خرجت بتأسيس المنظمة وتقرر خلالها إنشاء لجنة القدس التي ظل يترأسها حتى وفاته، وخلفه على رأسها ولي عهده، الملك محمد السادس. آنذاك كان الراحل الحسن الثاني حكما في مجال الخلافات العربية - العربية.

كما أنه في عهده انطلق مسلسل التعاون مع السوق الأوروبية (الاتحاد الأوروبي حاليا)، وكذلك الأمر بخصوص التعاون المتوسطي ومنظمة دول غرب البحر الأبيض المتوسط (برشلونة 1995).
وقتئذ كانت دبلوماسية المغرب نشطة ومتنوعة، وكانت تربطنا علاقات مع المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، قليلة جدا آنذاك، هي الدول التي استطاعت الاحتفاظ بالتواصل المستمر مع المعسكرين معا. خلال تلك الفترة لم تعترف أي دولة من الاتحاد السوفياتي أو أوروبا الشرقية وأيضا أوروبا الغربية بـ "الجمهورية الصحراوية".

وحسب العديد من المتتبعين آنذاك، دون بترول ودون غاز، تمكنت الدبلوماسية المغربية من تحقيق تقدم في ملف الصحراء ضد موقف دولة غنية ببترولها وغازها.

دبلوماسية اليوم ليست هي دبلوماسية الأمس

في الماضي كانت الدبلوماسية علاقات سياسية وتجارية واقتصادية وثقافية بين دولة ودول أخرى أو بين دولة ومنظمات دولية وجهوية، إلا أن دبلوماسية اليوم ليست هي دبلوماسية الأمس.

عندما نتحدث عن الدبلوماسية حاليا فإننا لا نتكلم عن الدبلوماسية الرسمية (وزارة الخارجية) فقط، لأنه بموازاة مع ذلك هناك دبلوماسية برلمانية ودبلوماسية الأحزاب السياسية والدبلوماسية الاقتصادية والدبلوماسية الرياضية والثقافية...
فهناك الأممية الاشتراكية وأممية أحزاب الوسط، كما توجد البرلمانات التي تجتمع من أجل التنسيق ودراسة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضايا السلم في العالم، وهناك النقابات التي تلعب أيضا دورا في حقل الدبلوماسية، ونفس الشيء بالنسبة لمنظمات وجمعيات المجتمع المدني، دون نسيان الجماعات المحلية في هذا المضمار، والتي تلعب دورها كذلك في المجال الدبلوماسي عن طريق التوأمة والشراكة والتعاون، في إطار اللامركزية بين الأقاليم والجهات عبر العالم.

وهناك كذلك دبلوماسية اللوبيات الدائمة واللوبيات الظرفية التي نشطت بشكل أضحى يجذب الأنظار خلال السنوات الأخيرة.

عبد الرحمان مكاوي أستاذ العلاقات الدولية

القرارات السياسية من اختصاص الملك وحده والعلاقات الدولية تخضع لمعادلة الربح والخسارة

يرى عبد الرحمان مكاوي، أستاذ العلاقات الدولية وخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية أن المغرب بدأ منذ مدة ينهج دبلوماسية هجومية والمعاملة بالمثل، علما أن الدبلوماسية المغربية من القرارات السيادية التي تدخل في اختصاصات الملك وحده حسب الدستور، وفوق هذا وذاك، هناك قرارات سيادية لا يمكن تداولها لحساسيتها، ومراقبتها من طرف الحكومة أو البرلمان تكون بعد اتخاذ القرار عبر استفسار وزير الشؤون الخارجية والتعاون، إلا أن ضعف الدبلوماسية البرلمانية والدبلوماسية الشعبية جعلت المغرب يفقد عدة مواقع هامة، في وقت لم يعد هناك مكان للخطأ أو للتأويل في مجال الدبلوماسية، وبالأحرى الانسياق وراء المزاج.

بإيجاز شديد هل دبلوماسيتنا بخير؟ وهل ما حدث مؤخرا مجرد تعثر أم يدخل في إطار إستراتيجية واضحة المعالم ومحددة المقاصد؟

الدبلوماسية المغربية تتعامل مع الدول وفقا لمصالح المغرب الأساسية : الصحراء المغربية، الإرهاب والأمن الروحي بمفهومه الواسع، فالقرارات المتخذة أخيرا لم تكن اعتباطية في اعتقادي وليست قرارات منفعلة أو متشنجة كما تسوق له بعض المنابر، بل إجراءات سيادية مدروسة ومحسوبة النتائج، نتجت عن تراكمات قديمة وجاءت لتؤكد مرة أخرى على الخطوط الحمراء للسياسة الخارجية المغربية، التي لا ينبغي تجاوزها من طرف الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع المغرب. فبخصوص قضية فنزويلا مثلا كان هناك نقص في التواصل مع الرأي العام، فهيكو شفيز يطبق منهج دبلوماسية الإثارة فهو تارة يقطع علاقاته مع إسرائيل وتارة أخرى يعيد ربطها بعد مرور أسابيع أو أشهر على هدوء العاصفة. تصادف الإجراء الفنزويلي مع قرار نقل السفارة المغربية من كركاس إلى جمهورية الدومنيكان مصادفة لا علاقة لها بأحداث غزة الدموية، فالإجراء المغربي جاء بعد سلوكات غير لائقة صدرت عن بعض المسؤولين الفنزوليين وبعد عدم وفاء وزير الخارجية الفنزويلي بالتزاماته وتعهداته بوقف مشروع بناء برلمان للبوليساريو في تفاريتي وتقديم سفير فنزويلا في الجزائر أوراق اعتماده في تيندوف لزعيم الانفصاليين. أما قضية قطع العلاقات مع إيران، فقد كان الأمر منتظرا نظرا لتجاوز إيران كل الأعراف الدبلوماسية سواء من خلال سوء معاملة الدبلوماسيين المغاربة في طهران أو محاولة خلق أقلية شيعية في المغرب. أما قضية البحرين فهي النقطة التي أفاضت الكأس الذي بدأ يغلي تحت نار هادئة منذ سنة 2002. في هذا السياق، نهج الدبلوماسيون المغاربة طرق بيداغوجية وإعلامية جديدة لتفسير أسباب قراراتهم السيادية، فكل ثغرة في هذا الباب تسمح للدعاية والخطاب المضاد بالنفوذ والتسرب إلى عقول الناس والتشويش عليهم لنية في نفس يعقوب.

هل هذا يعني أن المغرب قرر نهج دبلوماسية هجومية؟

إن المغرب بدأ ينهج دبلوماسية هجومية، دبلوماسية المعاملة بالمثل، بناء على إلحاح الرأي العام وضغطه، أما قضية التواصل مع الجمهور، فيمكن تجاوزها إذا توفرت الإرادة السياسية عن طريق ضخ خبرات مغربية في الميدان الدبلوماسي.

- هناك من يرى الآن أنه أضحى من الضروري إشراك البرلمان والحكومة في بلورة إستراتيجية دبلوماسية حتى لا تظل مقتصرة على دائرة ضيقة، كيف تقيمون هذا الطرح؟

+ الدبلوماسية المغربية هي عبارة عن مجموعة من القرارات السيادية، تدخل في إطار اختصاصات الملك وحده حسب الدستور، ويبدو أن العلاقات بين الدول تتم في سياق مجموعة من التقاليد والأعراف المحددة في مواثيق دولية مصادق عليها من طرف المغرب. فالحكومة من خلال وزير الشؤون الخارجية، والبرلمان بواسطة لجنته في الخارجية والحدود والدفاع، يشاركان، بصفة مباشرة أو غير مباشرة الملك، في اتخاذ وصنع القرار الاستراتيجي للمغرب، فمجلس الوزراء برئاسة الملك يناقش المعاهدات ويقرها وبعد ذلك يصادق عليها من طرف البرلمان. هناك قرارات سيادية لا يمكن تداولها لسريتها أو لأهميتها أو لحساسيتها، فالمراقبة الحكومية والبرلمانية تكون بعد اتخاذ القرار، وكثيرا ما يلتقي وزير الخارجية مع أعضاء لجنة الخارجية للإجابة على كل أسئلتهم واستفساراتهم حول مواضيع سياسية هامة.

كيف تقيمون الدبلوماسية الموازية المغربية سيما بخصوص خدمتها أو عرقلتها لبلوغ الأهداف المرسومة من طرف السياسة الخارجية الرسمية؟

الدبلوماسية الموازية لها أشكال وأدوات وأهداف تصب كلها في الإستراتيجية العامة للدولة، ويبدو أن الدبلوماسية البرلمانية للأسف مازالت دون المستوى المطلوب خاصة في أمريكا اللاتينية وآسيا واستراليا، أما الدبلوماسية الشعبية التي تقوم بها بعض الجمعيات وبعض المعاهد والصحافة الوطنية فهي مفيدة ومنتجة، خاصة في البلدان الديمقراطية التي يلعب فيها الرأي العام دور المشاركة في القرار السياسي والاقتصادي للدول . غير أن هذه الاجتهادات لا تؤخذ بعين الاعتبار، بسبب غياب التنسيق والثقة في هذه المكونات الموازية إضافة إلى ضعف الإمكانات لدى الدبلوماسية الشعبية، مما أفقد المغرب عدة مواقع هامة. هناك أيضا الدبلوماسية الاقتصادية التي أصبحت الآن تلعب دورا نشيطا في إفريقيا وآسيا والتي ينبغي تفعيلها وترشيدها ومواكبتها وتأطيرها سياسيا، والملاحظ أن هناك قارات كاملة مازالت غير مغطاة سواء من طرف الدبلوماسية الرسمية أو الدبلوماسية الشعبية والبرلمانية.

هل السياستنا الخارجية في نظركم تخضع لإستراتيجية معلومة أم أنها تعتمد نهجا براغماتيا حسب الظرفية والمستجدات، مما يجعلها تبدو كأنها مجرد ردود فعل ليس إلا؟

هناك ثوابت ومتغيرات في الدبلوماسية المغربية، فالسياسة لا تبنى على العواطف بل على الحساب والمصالح، فمنذ جلوس الملك محمد السادس على العرش ظهر نوع من التنشيط بالنسبة للدبلوماسية المغربية سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، فأصبحت علاقاتنا الدولية أكثر عقلانية وبرغماتية، بعيدة عن الأضواء والإثارة المجانية، فخلافا لما يعتقد في بعض الأوساط، فإن القرارات الأخيرة ليست مجرد ردود أفعال بل نتيجة لتراكمات سياسية معينة وصلت إلى حدها الطبيعي، وهي قطع العلاقات أو تجميدها. فكل قرار يخضع لمعادلة الربح والخسارة والمغرب حسِب جيدا كل تحركاته وقراراته الدبلوماسية الأخيرة. لقد صار كل شيء يخضع للدراسة والتحليل فلم يعد هناك مكان للخطأ أو التأويل في هذا الميدان الحساس.

هل تعيين السفراء في نظركم يخضع لاعتبارات سياسية أكثر منها مهنية ما دام أن عددا من السفراء لم يسبق لهم أن زاولوا في الأسلاك الدبلوماسية؟

تعيين السفراء يخضع لعدة اعتبارات سياسية تدخل في إطار التوازن العام الداخلي بين كل الفاعلين السياسيين في البلاد. ففي الماضي كان السفير يعين فحسب لمعرفته للغات الأجنبية أو لكثرة سفرياته كبعض التجار الكبار المتعلمين، ولإدراك عمق دور السفير، ينبغي ذكر دور بعض السفراء المغاربة في بداية القرن 19 كالحاج الزنيبر في القاهرة والصفار في باريس والكوهن في طوكيو، ومدى تأثرهم وانبهارهم بالآخر الأوروبي أو الأسيوي في مجال الحقوق والحريات والعلوم والتقنيات. فنموذج السفير الصفار في باريس ومطالبته السلطان سنة 1845 مباشرة بعد هزيمة المغرب في واقعة إيسلي 1844 بالإصلاحات الدستورية خير مثال للسفير الناجح، فالصفار لعب دورا كبيرا في إنشاء أول جريدة في المغرب سميت بالكازييطة (الصحيفة)، خلاصة القول، إن السفير يمثل رئيس الدولة وهو صلة الوصل بين الدولتين. لذلك فمن المفروض أن تتوفر فيه الكفاءة والثقة واللباقة وحسن الخلق. فالسفير الذي لا يتوفر على هذه الملكات والصفات هو إنسان فاشل وقد يتحول إلى عبء وفي علاقة بلده مع الدولة المعتمد لديها. وهناك في تاريخ الشعوب سفراء لعبوا دورا محوريا في نقل علاقات بلدانهم مع دول أخرى إلى مستوى التحالف والصداقة والتعاون، وبعضهم أوصلوا بلدانهم إلى الحروب والتطاحن.

الأمر يخضع إذن لاعتبارات سياسية مدروسة يقوم بها وزير الخارجية عند الترشيح ويتحمل مسؤوليتها قبل رفعها إلى الملك الذي يقرها أو يرفضها، وهذا ما حدث في عدة مناسبات.

عبد الوهاب معلمي أستاذ العلاقات الدولية

قد يكون تقصير في التقدير لكنها قرارات بنيت بالضرورة على أسباب وجيهة

كيف تقرؤون القرارات الدبلوماسية الأخيرة القاضية بقطع العلاقات مع إيران وإغلاق سفارتنا بفنزويلا؟

ما حدث مؤخرا، في إطار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، يعتبر إجراء استثنائيا حقا، حيث لم يكن متوقعا. كما كان مفاجئا وغير طبيعي أيضا إغلاق بعثتنا بفنزويلا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة و نقلها إلى جمهورية الدومينيك. و قد سبقت هذا و ذاك إجراءات مماثلة و لكنها أقل حدة (استدعاء السفير للتشاور) في حق دول أخرى صديقة و هي إسبانيا أو السنغال. قد لا نفهم كل هذه القرارات أولا نتفق حولها، لسبب أو لآخر. غير أنه لا يجب أن نعتقد أنها قرارات اعتباطية أو مزاجية. قد يكون هناك تقصير في التقدير، ولكنها قرارات بنيت بالضرورة على أسباب وجيهة، من منظور أصحاب القرار، و على تقدير دقيق للنتائج. و كما سبق أن صرحت من قبل فإن ما يجمع بين كل هذه القرارات هما دافعان أساسيان، الوحدة الترابية أو الأمن الداخلي.

من يحتكر القرار في السياسة الخارجية؟

صحيح أن هناك في المغرب ما يعرف بالمجال المحفوظ للملك في بعض المجالات و على رأسها السياسة الخارجية. و هذا يعني أن صاحب القرار في هذا المجال هو الملك. بشكل عام فالسياسة الخارجية تدخل ضمن المجال التنظيمي للسلطة التنفيذية ، و بالتالي فالبرلمان لا يتدخل إلا بالطريقة التي يحددها الدستور، أما من يحتكر القرار في السياسة الخارجية داخل الجهاز التنفيذي فقد يكون رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة حسب نظام الحكم أو ميزان القوة السياسي بينهما. فالدستور المغربي مثلا ليس فيه ما يمنع، بل على العكس، فيه ما يسمح للوزير الأول (الفصل 60) أن يتولى إدارة السياسة الخارجية، رغم الصلاحيات الهامة الأخرى التي يحوزها الملك والتي عادة ما تدخل ضمن صلاحيات رؤساء الدول في كل دساتير العالم. لكن الممارسة الدستورية و السياسية في المغرب شاءت أن تكون سلطة الملك هي المهيمنة في هذا المجال، كما في مجالات أخرى.

ما هي حال دبلوماسيتنا الموازية؟

+ في الحقيقة ليس هناك، بالمعنى الدقيق للكلمة، سوى دبلوماسية واحدة هي دبلوماسية الدولة. أما الجمعيات و النقابات و الأحزاب و الجماعات المحلية ربما تكون لها علاقات خارجية خاصة بها في إطار التضامن أو التعاون عبر القومي، التي يمكن أن تستغلها، بتنسيق أو بدون تنسيق مع الأجهزة الحكومية، لتدافع عن بعض القضايا الوطنية. و هذا حصل و ما زال يحصل بالنسبة للمغرب خاصة فيما يتعلق بالوحدة الترابية. من جهتها فإن الدول كما نعلم، لا تترد إن أرادت واستطاعت ذلك، في تسخير تلك المنظمات و الهيئات في سياستها الخارجية. هذه أمور يصعب تقييمها بشكل دقيق. و على كل حال، فحدود عمل هذه التنظيمات في قضايا تهم السياسة الخارجية تبقى رهينة بإرادة الدولة و إستراتجيتها الخارجية.

عبد الفتاح البلعمشي / مدير المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات

دبلوماسيتنا، "كتافها باردين" بالأمس واليوم تنعت بالمتسارعة والمنفعلة

هل تتحرك دبلوماسيتنا في إطار استراتيجية محددة سلفا؟

الدبلوماسية المغربية بقيت لفترة طويلة بعيدة عن النقد المفتوح في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، واليوم هي عرضة لكثير من الانتقاد وتخضع لكثير من النقاش، خصوصا بعد دعوة الملك محمد السادس لإخضاع الجهاز الدبلوماسي للإصلاحات التي يدشنها المغرب، والدعوة لضرورة تأهيلها انسجاما مع قضايا وإكراهات الحضور الوطني المطلوب على المستوى الدولي، ولمواكبة التطورات الدولية الحاصلة في هذا الشأن، إلا أن عددا من التغييرات لم تر طريقها إلى النور لتؤطر العمل الدبلوماسي، ولم تستطع الجهات المسؤولة أن تتخلص من الفكر الذي ظل سائدا، ومن ثمة فهي تقف في وجه الإصلاح المنشود، والنتيجة استمرار المطالبات لتحقيق دبلوماسية واضحة وشفافة وواقعية وهجومية ومنضبطة في نفس الآن، وهذا يبدوا غير محقق لحد الآن، لذلك يصعب الحديث عن إستراتيجية متكاملة وهادفة ما لم تتحقق الكثير من الإصلاحات التي باتت مطلبا ملكيا وشعبيا..

هل الشأن الدبلوماسي مازال حكرا على جهة دون سواها؟

هذا يحيلنا إلى أهمية استيعاب الدولة لكل الفاعلين في الأداء الدبلوماسي للبلاد، فبالإضافة إلى المؤسسات التي ذكرت، يجب التعامل بمنطق الشراكة مع كل الفاعلين المؤهلين للقيام بأدوار مكملة وأحيانا مساعدة الدولة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وهذا بالضبط ما يصطلح عليه بالدبلوماسية الموازية، ومنطق الخبرة والوطنية شرطان أساسيان في بلورة أي إستراتيجية، وإن كنا نلاحظ شيئا من الانفتاح على بعض المراكز وبعض الفعاليات، إلا أن ذلك يبقى حبيس الانتقادات التي كانت توجه للخارجية المغربية من قبيل الاحتكار العائلي لتدبير الشأن الدولي للبلاد.

ماذا عن دبلوماسيتنا الموازية (البرلمانية، المجتمع المدني...)؟

ما لم تتوفر الحرية والدعم المادي والمعنوي لمبادرات وفعاليات الدبلوماسية الموازية لا يمكن أن نتحدث عن دور مؤثر في هذا الباب، وأقصد بالحرية احترام الآراء المختلفة والعمل على الاستفادة منها متى كانت تصب في خدمة مصالح البلد، فالمهتمون والباحثون والفعاليات غير الربحية أحق بالافتخار حين يهتمون بإشعاع البلد، ويقترحون ويعملون لصالح تحقيق الأهداف الموحدة والمشتركة لسياستنا الخارجية، هذا لا ينتقص من مجهودات الفاعلين الرسميين بل يزيد من حجم المسؤولية الملقاة عليهم لأنه مهما يكن فهم في نهاية المطاف موظفون لدى الحكومة.

كيف تقرأون القرارات الأخيرة التي أثارت الكثير من الجدال؟

أنت تقصد ربما ما طبع الدبلوماسية المغربية مؤخرا من ردات فعل سريعة ومنفعلة، كما حصل مع السينغال وفنزويلا ومؤخرا مع إيران، يبدو أن النقد يلازم الدبلوماسية المغربية هذه الأيام، ففي السابق كانت تنعت بالمتراجعة والسلبية، وكما نقول في الدارجة "كتافها باردين" واليوم تنعت بالمتسارعة والمنفعلة، وبصدق لكل سياسة من هاتين السياستين سلبياتها وإيجابياتها، إلا أنهما بالمقابل ليستا سياستين ناجحتين، فالحكمة تقتضي درس ردود الفعل والبحث عن تحقيق الأهداف بتوازن مع الحفاظ على علاقات ثابتة ومؤطرة لكل نزاع مهما كان حجمه، وبعبارة أخرى يجب دائما ترك مجال للتفاوض والتحكم في ردات الفعل، ومن هنا يصعب تصنيف دبلوماسيتنا في إحدى الخانتين خصوصا أمام التوتر الحاصل مع إيران، وحتى إن افترضنا جدلا أن هناك نهجا براغماتيا في الموقف من إيران، هل لك أن تدلني على المكاسب المباشرة من وراء اتخاذ قرار قطع العلاقات حتى نؤكد أو ننفي هذا الطرح، ثم إن تقديم تنازلات معينة يجب وضعها مسبقا في ميزان المكاسب المترتبة عليها وضمانها قبل إتيان الفعل، لا أن نتخذ المواقف وننتظر المقابل الذي قد يأتي أو لا يأتي.

لماذا رفضتم المشاركة في الوفد الذي تقرر أن يتجه إلى فنزويلا؟ و ما هي دواعي الإفصاح عن هذا الأمر رغم أنه قيل بأنه يكتسي طابعا سريا؟

لدي حساسية كبرى من مصطلح السرية حين يتعلق الأمر بخدمة القضايا الوطنية، فمن يلجأ للعمل السري هي المنظمات التي تقاوم الاستعمار، أو الأجهزة الإستخباراتية التي تسهر على جمع المعلومات، أما العمل المدني والإعلامي والفكري فإما أن يكون علنيا أو لا يكون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق